القانون والمجتمع في ليبيا

القانون والمجتمع في ليبيا

تيسّر العدالة في ليبيا من منظور السعاة إليها: تيسّر العدالة لملاك أراضٍ أُخضعت للقانون 4/1978، طبرق

تدور دراسة الحالة هذه حول شخص فقد أرضا كان اشتراها للاستثمار في وسط طبرق عندما سن نظام القذافي القانون رقم 4/1978، ولم ينل أي تعويض، ولم تتكلل جهوده وجهود ورثته لاستعادة الأرض بالنجاح. وفي حين اتسع أثر القانون ليشمل عشرات الآلاف، فإن الدراسة ركزت على هذه الحالة لثرائها في بيان أثر التغيرات السياسية والاجتماعية على السعي للعدالة.

تبدأ القصة بارتحال حسن عن زليتن غرب ليبيا إلى طبرق في أقصى شرقها، وامتهانه التجارة فيها. وقد قاده هذا إلى شراء أرض في مركزها لبناء عمارات سكنية لغرض الاستثمار، ونيله قرضاً عقارياً لهذا الغرض. وقد ساعدته في ذلك بيئة محابية للاستثمار الخاص أسست لها قوانين النظام الملكي (1951-1969).

وحين سدّد حسن القسط الأخير من ثمن القرض كان النظام السياسي قد تغير، وحل محل النظام الملكي نظام القذافي، الذي أعلن مذ بداياته عن توجهاته الاشتراكية، المناهضة للقطاع الخاص، ما دفع حسن إلى التريث في بناء العمارات السكنية. وبالفعل، سنّ النظام عام 1978 القانون رقم 4 الذي حظر مِلك أكثر من مسكن واحد أو قطعة أرض واحدة لبناء مسكن عليها، ونقل إلى ملك الدولة ما زاد على ذلك. وبعد أن أقر حسن بما يملك، استحوذت الدولة على ما زاد، وكان من ضمنه قطعة الأرض المشار إليها آنفاً، وخصصتها للشركة العامة للأسواق المنشأة حديثاً. ومن اللافت للنظر أن حسناً لم يطلب تعويضاً عن هذه الأرض، وقد يفسر هذا ما قاله لاحقاً من أنه اعتقد حينها أن القانون رقم 4 كان يتغيا المصلحة العامة.

غير أن الأمور تغيرت في عام 2006 حين أدخل النظام تدابير إصلاحية شملت مراجعة لسياساته وقوانينه الاشتراكية. وفيما يتعلق بموضوع الدراسة، تمثلت هذه في قرار حل الشركة العامة للأسواق، وتشكيل لجنة "لاستكمال" التعويض عن العقارات التي أُخضعت إلى القانون رقم 4. وعلى الرغم من تسميتها المحددة لاختصاصها بالتعويض، فإن اللجنة منحت أيضاً اختصاص رد العقارات في حالات محددة.

تقدم حسن بطلب استرداد أرضه إلى لجنة التعويضات الفرعية في طبرق، ولكن إجابته إلى ذلك لم تكن ميسّرة. فمن ناحية أولى، كان المبنى المعدني المقام على الأرض قد تآكل بعد مرور خمس وعشرين سنة دون صيانة، ولكن هذا لم يحل دون مطالبة حسن -إن أراد استرداد الأرض- أن يدفع الرهن العقاري الذي كانت الشركة المنحلة مكبلة به: أكثر من 4 ملايين دينار ليبي. ولم يكن أمامه إلا رفض هذا الطلب، فقد سدد ما عليه من أقساط القرض الذي كان قد ناله توطئة لبناء العمارات السكنية، ولم يكن مستعداً لدفع مبلغ آخر الدولة مدينة به. ومن ناحية أخرى، خُصص السوق لشركة تسويق عامة محلية داخل بلدية طبرق. من الواضح أن النظام لم يكن مستعدا للتخلي تماما عن سياساته الاشتراكية. ولاستثمار السوق العام، جرى تخصيصه لمستثمر خاص تصادف أنه قريب المسؤول عن القطاع الاقتصادي داخل المجلس البلدي وأحد أعيان قبيلة ذات نفوذ في المدينة.

وبعد لأي، تمكن حسن من الحصول على قرار من لجنة التعويضات برد أرضه شريطة أن يستأجر أو يدفع ثمن السوق. ومع ذلك، فشلت جميع محاولات تنفيذ القرار. فقد رفض المستثمر الخاص المتنفذ إخلاء السوق، ولم تجد نفعاً محاولات حسن طلب العون من القضاء، ورئيس المنطقة العسكرية، ولجنة التعويضات، ووزير العدل، وهيئة الرقابة الإدارية، ومصلحة أملاك الدولة، ومصلحة التسجيل العقاري، ولجنة حقوق الإنسان في مؤسسة سيف الإسلام الحقوقية، وأمانة مؤتمر الشعب العام. ورفضت المؤسسات المحلية المكلفة بتنفيذ القرار القيام بذلك. ونالت مساعي حسن ضربة قاصمة حين اتخذ النظام -في خطوة أخرى تظهر ارتباك مراجعاته لسياساته الاشتراكية- قرارا يمنع ردّ أي أرض بُنى عليها سوق عام. لم يبق هذا أمام حسن خيار سوى التعويض، ولكنه رفضه.

لم يحمل التغيير السياسي الذي تحقق بثورة فبراير 2011 تغييراً بالنسبة لمظلمة صاحبنا. وكان حسن قد توفى وحل محله هاني، ابنه الأكبر، في السعي لنيل العدالة. أصبح الابن عضوا نشطا في جمعيات منشأة حديثا تضم ملاّكاً سابقين، وضغطت هذه على المؤتمر الوطني العام والحكومة لإلغاء القانون 4 ومعالجة عواقبه. وأثمر هذا الضغط مشاريع قوانين لم ير أي منها النور، في وقت ملائم على الأقل.

وبعد أعوام، سنّ المؤتمر الوطني العام قانوناً يلغي القانون 4 (القانون 16/2015) وآخر يعالج آثار القانون الملغى من خلال اعتبار رد العقار سبيل جبر الضرر المفضّل (القانون 20/2015). ولكن المؤتمر فعل ذلك عام 2015، أي بعد انتخاب خليفته -مجلس النواب- وانقسام البلاد سياسياً، بين نصف في شرقها يتولى التشريع فيه هذا المجلس وآخر في غربها يعترف بهذا للمؤتمر. وبما أن سكنى صاحبنا، وموقع أرضه، طبرق في شرق البلاد، فإنه لم يفد من قوانين المؤتمر الوطني العام، واضطر إلى وقف نشاطه في جميعة ملاّك مقرها طرابلس.

وحين جرت مقابلته، لم يكن هاني متفائلاً بشأن أي قانون جديد. القوانين، كما قال، تحتاج إلى تنفيذ وهو متعذر بسبب حالة مؤسسات الدولة ذات الصلة. والأمر أسوأ في حالته، إذ يعتصم المستثمر الخاص بقبيلته المتنفذة، ولا يملك هاني إلا عائلته المحدودة العدد والتأثير بحكم أصولها في غرب البلاد.

ولكن في وقت لاحق، بدا أن هناك حلاً في الأفق لهاني وعائلته. لقد جذبت الأرض بموقعها في وسط المدينة اهتمام أحد رجال الأعمال، وعرض على هاني شراؤها مقابل مبلغ كبير، واتفق مع المستثمر الخاص على إخلائها مقابل مبلغ مجزٍ. وأمام إغراء العرض، وتعسّر البدائل، وافق هاني وأسرته عليه. وفي حين ما زالت هناك عوائق قانونية قد تحول دون إتمام الصفقة -إذ الأرض ما زالت على ملك الدولة-، فإن المشتري يبدو واثقاً من قدرته على اقناع المسؤولين على إمضائها. وفي حين يبدو أن هذا الاقناع قد يتضمن ممارسات فساد، فإن هذا لم يثن صاحبنا على قبول العرض؛ ما يهمه -كما يبدو- هو الخلاص الفردي، وقد لا يلومه الكثيرون في ذلك.

صدر هذا الملخص في التقرير النهائي للمرحلة البحثية الأولى لمشروع تيسر العدالة في ليبيا.